الساجد لله .
عدد المساهمات : 292 تاريخ التسجيل : 30/10/2010 العمر : 33
| موضوع: خبر الواحد في "الرسالة" للإمام الشافعي الجمعة 5 نوفمبر 2010 - 22:00 | |
| خبر الواحد في "الرسالة" للإمام الشافعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنّ كتاب الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204) من أول الكتب المصنفة في أصول العلم، بل هو أولها؛ إذ حوى جملاً مفيدة وقواعد كثيرة في علوم المصطلح وأصول الفقه، وكفى بهذا الكتاب قوة وقبولاً أن كان مؤلفه الشافعي؛ صاحب النظر والحجة القوية، والعقيدة السُّنيَّةِ السَّنيّةِ، الذي طافت بكتبه الركبان، واكبَّ عليها طلبة السنة والقرآن، وكانت - بالتأصيل والتقعيد - خير هاد، لكل من طلبها من الحاضر والباد. ولم يسم الشافعي كتابه بـ "الرسالة" وإنما كان يطلق عليها في بعض كتبه "الكتاب"، وإنما سميت كذلك لأنّ الشافعي كتب هذا الكتاب بناء على طلب من الإمام عبد الرحمن بن مهدي (ت198) بأن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، وأرسله الشافعي له إلى بغداد مع الحارث بن سريج النقال. وانظر التعليق على الرسالة للعلامة أحمد شاكر ص(11، 12) بتصرف.
وهذه إلماحة يسيرة عن عقيدة الإمام الشافعي في خبر الواحد، وشروط قبوله عنده التي سطّرها في كتابه، ردّاً على من يدّعي النسبة إلى هذا الإمام في بعض الفروع ثم يخالفه في الاعتقاد والأصول، وعلى كل من فرّق في قبول خبر الواحد؛ فأخذ به في الأحكام وردّه في الاعتقاد؛ كيف لا والإمام الشافعي قريب من عصر التابعين فقد عاش في القرن الثاني الهجري، فنهل من علوم السلف، وعرف الحق من معينه الصافي، إضافة إلى وجود بعض رؤوس البدعة والضلال في زمنه كبشر بن غياث المريسي الجهمي المعتزلي، والذي كان ينازع – ضلالاً- في حجية خبر الواحد في مسائل الإيمان. وقد جعلت هذا الملخص بإحدى عشرة نقطة – تسهيلاً للانتفاع بها - تشكل كل واحدة منها أصلاً عند الإمام الشافعي في خبر الواحد، وعزوت تلك الفوائد والقواعد إلى كتاب الرسالة بتحقيق العلامة أحمد محمد شاكر – رحمه الله -. الله الموفق لا رب سواه.
أولاً:تعريف الشافعي - رحمه الله - لخبر الواحد.
قال ص(369-370): " خبر الواحد عن الواحد حتى يُنتهى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من انتهى به إليه دونه". قلت: فإذا كان هذا هو تعريف خبر الواحد عند الإمام الشافعي – رحمه الله – وقصره على: نقل الواحد عن الواحد؛ فإنَّ نقل الاثنين عن الاثنين – وهو العزيز -، والثلاثة عن الثلاثة فما فوق - وهو المشهور – يدخل في هذا التعريف دخولاً أولياً.
ثانياً: شروط الاحتجاج بخبر الواحد عند الإمام الشافعي - رحمه الله -. (1) أن يكون الراوي ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه. (2) أن يكون عاقلاً لما يحدِّثُ به. (3) أن يحدث الحديث بلفظه وحروفه دون معناه؛ إلا إذا كان عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ. (4) أن يكون حافظاً إذا حدَّث من حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدَّث من كتابه. (5) أن لا يكون حديثه شاذاً. (6) أن لا يكون مدلّساً. (7) اتصال السند. انظر في ذلك "الرسالة" ص(370-371).
ثالثاً: الفروق بين الحديث والشهادة عند الشافعي - رحمه الله -.
(1) يقبل خبر الواحد والمرأة في الحديث، ولا يقبل خبر أحدهما في الشهادة. قلت: في الشهادة يشترط رجلان اثنان ذوا عدل، أو رجل و امرأتان ممن ترتضى شهادتهم من العدول، أو شهادة الرجل مع يمينه في الأموال خاصة. وذلك ما دلّ عليه القرآن والسنة الصحيحة. (2) يقبل في الحديث "حدثني فلان عن فلان" إذا لم يكن مدلّساً، ولا يقبل في الشهادة إلا سمعتُ، أو رأيتُ، أو أشهدني، ونحو ذلك. (3) عند اختلاف الأحاديث يؤخذ ببعضها؛ استدلالاً بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، ولا يكون هذا في الشهادات بحال. قلت: يقصد باختلاف الأحاديث تعارضها الظاهريّ، ويقصد بقوله: "يؤخذ ببعضها ..." الجمع بين المتعارضات أو الترجيح بينها وفق القواعد الأصولية والحديثية، ومنها ما أشار الشافعي إليه من كون بعض الأحاديث يستدل على ترجيح العمل بها بالكتاب أو بسنة أخرى أو بالإجماع أو بالنظر الصحيح. أما إذا اختلفت الشهادات فيرجع إلى حكم القاضي بناء على النظر في القرائن ودلائل الأحوال والأيمان وغيرها، فلا تعامل معاملة الأحاديث المختلفة من حيث الجمع والترجيح. (4) قد تقبل شهادة الرجل، ولكن لا يقبل حديثه. قلت: لأنه قد يكون عدلاً مأموناً عاقلاً ثقة في دينه؛ ولذا قبلت شهادته، لكنه ليس من أهل الحفظ والضبط؛ فيرد حديثه. (5) إحالة معنى الحديث أخفى من إحالة معنى الشهادة، فلا يقال في الشاهد: عالم بما يحيل المعاني، فالاحتياط في الحديث من هذا الوجه أوْلى. وانظر "الرسالة" ص(372-374).
رابعاً: التدليس.
عرّفه الإمام الشافعي بأن يحدث الراوي عمّن لقيه مالم يسمع منه، وردّ على من قال: "إنّ الذي لم يعرف بالتدليس ويروي بـ (عن) يمكن أن يكون لم يسمع ممن هو فوقه" بأنّ المسلمين عدولٌ، أصحّاء الأمر في أنفسهم، وحالهم في غيرهم غير حالهم في أنفسهم، فشهادتهم مقبولة إذا عُرف العدل فيهم، وشهادتهم على شهادة غيرهم لا تغني عن معرفة عدالة الغير. وبيّن - رحمه الله – أنّ التدليس ليس بعلة قادحة موجبة لردّ رواية الراوي مطلقاً؛ بل هي عوْرة فوق الكذب، ودون النصيحة، فلا نردُّ حديثه لعدم الكذب، ولا نقبل منه ما قبلناه من أهل النصيحة والصدق. وأشار – رحمه الله – إلى أنّ المدلّس لا يقبل حديثه حتى يصرّح بالسماع بقوله: حدثني، أو سمعت، ونحوهما. وانظر "الرسالة" ص(371، 378، 379).
خامساً: ليس كل عدل مقبول الحديث. وعلة ذلك؛ أنّ العدل قد لا يكون ضابطاً، وقد لا يكون عالماً بما يحيل المعاني إن حدّث بالمعنى، لأنه بذلك يحمل ما لا يعقل، فإن رام تأدية الحديث على معناه، وهو ليس ممن يؤديه بحروفه، ولا يعقل ما يحمل لم يقبل حديثه. وهذا الاحتياط لكبر أمر الحديث وموقعه من المسلمين. وانظر "الرسالة" ص(380-381).
سادساً: من كثر غلطه من المحدّثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح لا يقبل حديثه؛ كمن كثر غلطه في الشهادة فإنه لا تقبل شهادته.
انظر "الرسالة" ص(382).
سابعاً: الميزان العام الذي توزن به الروايات صحة وضعفاً، والرجال حفظاً وغفلةً. من كان معروفاً بعلم الحديث؛ طلباً، وسماعاً من الأب والعم وذوي الرحم، والصديق، وطولَ مجالسةٍ لأهل التنازع فيه كان مقدماً في الحفظ إن خالفه من يُقصِّرُ عنه، وكان أوْلى يقبل حديثه ممَّن خالفه من أهل التقصير عنه. ويستدلُّ على حفظ الرجل بأن يوافق أداؤه أداء أهل الحفظ، كما يستدل على عكس ذلك بأن يخالف أهل الحفظ. وإذا اختلفت الرواية فإنه يستدل على المحفوظ منها والغلط بهذا الميزان. وانظر "الرسالة" ص(382-383).
ثامناً: الأدلة على حجية خبر الواحد، وكونه أصلاً بذاته.
يستدلُّ الشافعيُّ - رحمه الله – على حجية خبر الواحد وكونه أصلاً بذاته بأدلة يسوقها بأسانيدها منها: (1) حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها وأداها، فربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه".[ورواه غير الشافعي أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي وهو في "الصحيحة" (404، 1721)]. وبين الشافعي – رحمه الله – دلالة الحديث على هذا التأصيل بقوله: "فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته، وحفظها، وادائها امْرَأً يؤديها - والاِمْرُءُ واحدٌ – دلَّ على أنّه لا يَأمرُ أن يُؤَدّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدّى إليه؛ لأنّه إنّما يؤدّى عنه حلالٌ، وحرامٌ يُجْتَنَبُ، وَحدٌّ يُقامُ، ومالٌ يُؤخذُ ويُعطى، ونصيحةٌ في دينٍ ودنيا " (2) حديث أبي رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "لا ألفينَّ أحدَكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" [رواه غير الشافعي، أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في "الدلائل"، وهو في صحيح الجامع (13128)]. قال: "وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله، وإعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا نصَّ حكمٍ في كتاب الله..." (3) حديث أم سلمة بشأن قبلة الصائم، عندما قبل رجل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجْداً شديداًً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة - أم المؤمنين - فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إنَّ رسول الله يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شراً وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله: "ما بال هذه المرأة؟" فأخبرته أم سلمة فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟" فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله ثم قال: "والله إني لاتقاكم لله، ولأعلمكم بحدوده". [أخرجه غير الشافعي مالك، وأحمد، وعبد الرزاق، وقال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن أبي سلمة – وهو ابن أم سلمة - أنه سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه – يعني أم سلمة – فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله! قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له"، وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة انه كان – صلى الله عليه وسلم – يقبلها وهو صائم] قال الشافعيّ: "في ذكر قول النبي - صلى الله عليه -: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك" دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرته، وهكذا خبر امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده" (4) حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – [صحيح البخاري] في تحويل القبلة، وقبول الناس - وهم في صلاة الصبح بقباء -لخبر من أتاهم يخبرهم وهو واحد، فاستقبلوا الكعبة، ولم يكن لأهل قباء - وهم أهل سابقة في الإسلام من الأنصار، وأهل فقه – أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم به الحجة، ولم يكونوا ليدعوه إلا عن علم بأنَّ الحجة تثبت بمثل هذا الخبر إن كان ناقله من أهل الصدق. (5) حديث أنس بن مالك في كسر جرار الخمر عندما حرّمت لما أتاهم آتٍ فأخبرهم. [أخرجه البخاري ومالك]. (6) وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين: "و اغد يا أُنيس إلى امرأة هذا, فإن اعترفت فارجمها, فاعترفت فأمر بها فرجمت". وحديث بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا بكر وعلياً على الناس في الحج يخبرونهم بأمور دينهم، وحديث بعث معاذ إلى اليمن يعلمهم التوحيد وشعائر دينهم، وأحاديث بعث الرسل معهم الكتب والرسائل على الملوك في الجزيرة، وأحاديث بعث الولاة والأمراء على الناس في البعوث والولايات والسرايا والغزوات... إلى غير ذلك مما ثبت واشتهر من الأحاديث واستدل به الشافعي – رحمه الله – على حجية خبر الواحد. وانظر "الرسالة" ص(401) فما بعدها.
قلت: ومن أدلة الكتاب العزيز على قبول خبر الواحد العدل وحجيته: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة : 122) والطائفة تطلق على الواحد فما فوق، والتفقه في الدين يشمل الدين كله بعقيدته وأحكامه. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات : 6) فلما أمر بالتبيُّن والتثبت من خبر الفاسق، ولم يأمر بذلك في خبر العدل الثقة، دل ذلك على قبول خبره، وإفادته العلم، والقطع والجزم به.
تاسعاً: رد الشافعي على من شكك بقبول خبر الواحد بسبب بعض الوقائع؛ كواقعة طلب عمر لشاهد آخر مع أبي موسى في مسألة الاستئذان بتطرق احتمالات ثلاثة:
(1) أنّ ذلك كان من باب الاحتياط الزائد؛ فخبر الاثنين يزيد الحجة قوة وثبوتاً. (2) أو أنه من باب عدم علم المُخبر، فيتم التوقف بقبول روايته حتى يأتي مخبر يعرفه المتوقف. (3) أو أنه من باب عدم قبول خبر المخبر أصلاً؛ لعلة معينة، فيردُّ خبره حتى يأتي غيره ممن هو مقبول الرواية. واختار الشافعي في حق عمر وأبي موسى الأول؛ لأن أبا موسى صحابي، وهو ثقة أمين عند عمر. وانظر "الرسالة" ص(432-434).
عاشراً: استلال الشافعي بالإجماع على قبول خبر الواحد.
قال – رحمه الله – ص(457): " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي، ولكن أقول لم أحفظ عن فقهاء المسلمين انهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودا على كلهم".
حادي عشر: أعذار بعض الأئمة في تركهم العمل ببعض الأحاديث، وانّ ذلك ليس من قبيل ترك الأخذ بخبر الواحد.
(1) وجود حديث عند العالم يخالف الحديث الذي تركه. (2) وجود حديث عنده أثبت وأوثق يخالفه. (3) عدم ثبوت الحديث عنده؛ لوجود متهم فيه ...الخ (4) احتمال الحديث لمعنيين فأكثر، فيتأوَّله، فيحمله على أحدهما دون الآخر. وانظر "الرسالة" ص(458).
| |
|